الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
{بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله} أي: بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، على أن التمييز محذوف، والفاعل المفسر به مضمر، و{مثل القوم} هو المخصوص بالذم، أو {مثل القوم} فاعل {بئس}، والمخصوص بالذمّ الموصول بعده على حذف مضاف، أي: مثل الذين كذبوا، ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جرّ، والمخصوص بالذمّ محذوف، والتقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني: على العموم، فيدخل فيهم اليهود دخولاً أوّلياً. {قُلْ يأيها الذين هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} المراد: بالذين هادوا الذين تهوّدوا، وذلك أن اليهود ادّعوا الفضيلة على الناس، وأنهم أولياء الله من دون الناس، كما في قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادّعوا هذه الدعوى الباطلة {فَتَمَنَّوُاْ الموت} لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم {إِن كُنتُمْ صادقين} في هذا الزعم، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحبّ الخلوص من هذه الدار. قرأ الجمهور: {فتمنوا} بضم الواو، وقرأ ابن السميفع بفتحها تخفيفاً، وحكى الكسائي إبدال الواو همزة، ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبداً بسبب ذنوبهم فقال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي: بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي، والتحريف والتبديل {والله عَلِيمٌ بالظالمين} يعني: على العموم، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولاً أوّلياً.ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم، وأنه نازل بهم، فقال: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم} لا محالة، ونازل بكم بلا شك، والفاء في قوله: {فَإِنَّهُ} داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط، قال الزجاج: لا يقال: إن زيداً فمنطلق، وها هنا قال: فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء، أي: إن فررتم منه، فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، وقيل: إنها مزيدة، وقيل: إن الكلام قد تمّ عند قوله: {تَفِرُّونَ مِنْهُ} ثم ابتدأ فقال: {فَإِنَّهُ ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} وذلك يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الأعمال القبيحة، ويجازيكم عليها.وقد أخرج ابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية: {يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} أوّل سورة الجمعة.وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب».وأخرج البخاري، وغيره عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي، وقال: «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء».وأخرجه أيضاً مسلم من حديثه مرفوعاً بلفظ: «لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس أو قال: من أبناء فارس».وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس».وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والضياء عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب»، ثم قرأ: {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم}.وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} قال: الدين.وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} قال: اليهود.وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {أَسْفَاراً} قال: كتباً.
وقال أيضاً: أي: فاعملوا على المضيّ إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه، ويؤيد هذا القول قول الشاعر: {وَذَرُواْ البيع} أي: اتركوا المعاملة به، ويلحق به سائر المعاملات. قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحلّ الشراء والبيع، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى السعي إلى ذكر الله، وترك البيع، وهو مبتدأ، وخبره {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: خير لكم من فعل البيع، وترك السعي لما في الامتثال من الأجر والجزاء. وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجباً للعقوبة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي: إذا فعلتم الصلاة وأدّيتموها وفرغتم منها {فانتشروا في الأرض} للتجارة والتصرّف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي: من رزقه الذي يتفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب، وقيل: المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات، واجتناب ما لا يحلّ {واذكروا الله كَثِيراً} أي ذكراً كثيراً بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيويّ، وكذا اذكروه بما يقرّبكم إليه من الأذكار، كالحمد، والتسبيح، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به.{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلاّ اثنا عشر رجلاً في المسجد. ومعنى {انفضوا إِلَيْهَا}: تفرّقوا خارجين إليها.وقال المبرد: مالوا إليها، والضمير للتجارة، وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو؛ لأنها كانت أهمّ عندهم، وقيل التقدير: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأوّل عليه، كما في قول الشاعر: وقيل: إنه اقتصر على ضمير التجارة؛ لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموماً مع الحاجة إليها، فكيف بالانفضاض إلى اللهو، وقيل: غير ذلك {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} أي: على المنبر: ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: {قُلْ مَا عِندَ الله} يعني: من الجزاء العظيم وهو الجنة {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد، وسماع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجلها {والله خَيْرُ الرازقين} فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه.وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله لأيّ شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: «لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم، وفيه الصعقة والبعثة، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له».وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري ما يوم الجمعة»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: «هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم أفلا أحدّثكم عن يوم الجمعة»، الحديث.وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلاّ في يوم الجمعة».وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم.وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها، وفي الساعة التي فيها، وأنه يستجاب الدعاء فيها، وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحرّ قال: رأى معي عمر بن الخطاب لوحاً مكتوباً فيه {إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فقال: من أملى عليك هذا؟ قلت أبيّ بن كعب، قال: إن أبياً أقرأنا للمنسوخ اقرأها: {فامضوا إلى ذكر الله} وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلاّ: {فامضوا إلى ذكر الله} وأخرجه عنه أيضاً الشافعي في الأمّ، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم.وأخرجوا كلهم أيضاً عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: {فامضوا إلى ذكر الله} قال: ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي.وأخرج عبد بن حميد عن أبيّ بن كعب أنه قرأ كذلك.وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} قال: فامضوا.وأخرج عبد بن حميد عنه أن السعي: العمل.وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب: أن رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فيدعونه ويقومون، فنزلت الآية: {وَذَرُواْ البيع} فحرم عليهم ما كان قبل ذلك.وأخرج ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} قال: «ليس لطلب دنيا، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله».وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: لم تؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو: عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله.وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً، أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} إلى آخر السورة.وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال: جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام، فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً» وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم.
|